فصل: قال الثعلبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من أقوال المفسرين في قوله تعالى: {فاكتبوه}:

.قال الفخر:

اعلم أنه تعالى أمر في المداينة بأمرين:
أحدهما: الكتبة وهي قوله هاهنا: {فاكتبوه}.
الثاني: الإشهاد وهو قوله: {فاستشهدوا شَهِيدَيْنِ مّن رّجَالِكُمْ}. اهـ.

.قال القرطبي:

وفي قوله: {فاكتبوه} إشارة ظاهرة إلى أنه يكتبه بجميع صفته المبيِّنة له المُعْرِبة عنه؛ للاختلاف المتوهَّم بين المتعاملين، المعرِّفةِ للحاكم ما يحكم به عند ارتفاعهما إليه.
والله أعلم. اهـ.

.قال السمرقندي:

{فاكتبوه} يعني الدين والأجل.
ويقال: أمر بالكتابة، ولكن المراد به الكتابة والإشهاد، لأن الكتابة بغير شهود لا تكون حجة.
ويقال: أمر بالكتابة لكي لا ينسى.
ويقال: من أدان دينًا، ولم يكتب، فإذا نسي ودعى الله تعالى بأن يظهره يقول الله تعالى: أمرتك بالكتابة فعصيت أمري، وإذا دعى بالنجاة من الزوجة يقول الله تعالى جعلت الطلاق بيدك إن شئت طلقها، وإن شئت فأمسكها. اهـ.

.من أقوال المفسرين في قوله تعالى: {بالعدل}:

.قال الفخر:

أما قوله: {بالعدل} ففيه وجوه:
الأول: أن يكتب بحيث لا يزيد في الدين ولا ينقص منه، ويكتبه بحيث يصلح أن يكون حجة له عند الحاجة إليه.
الثاني: إذا كان فقيهًا وجب أن يكتب بحيث لا يخص أحدهما بالاحتياط دون الآخر، بل لابد وأن يكتبه بحيث يكون كل واحد من الخصمين آمنا من تمكن الآخر من إبطال حقه.
الثالث: قال بعض الفقهاء: العدل أن يكون ما يكتبه متفقًا عليه بين أهل العلم ولا يكون بحيث يجد قاض من قضاة المسلمين سبيلًا إلى إبطاله على مذهب بعض المجتهدين.
الرابع: أن يحترز عن الألفاظ المجملة التي يقع النزاع في المراد بها، وهذه الأمور التي ذكرناها لا يمكن رعايتها إلا إذا كان الكاتب فقيهًا عارفًا بمذاهب المجتهدين، وأن يكون أديبًا مميزًا بين الألفاظ المتشابهة. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {بالعدل} أي بالحق والمعدلة، أي لا يُكتب لصاحب الحق أكثر مما قاله ولا أقلّ.
وإنما قال بَيْنَكُمْ ولم يقل أحدكم؛ لأنه لما كان الذي له الديْن يَتَّهِم في الكتابة الذي عليه الديْن وكذلك بالعكس شرع الله سبحانه كاتبًا غيرهما يكتب بالعدل لا يكون في قلبه ولا قلمهُ موَادَّةٌ لأحدهما على الآخر.
وقيل: إن الناس لما كانوا يتعاملون حتى لا يشذّ أحدهم عن المعاملة، وكان منهم من يكتب ومن لا يكتب، أمر الله سبحانه أن يكتب بينهم كاتبٌ بالعدل. اهـ.

.قال ابن عاشور:

وقوله: {بالعدل} أي بالحق، وليس العدل هنا بمعنى العدالة التي يوصف بها الشاهد فيقال رجل عدل لأنّ وجود الباء يصرف عن ذلك، ونظيره قوله الآتي: {فليملل وليه بالعدل}.
ولذلك قصر المفسرون قوله: {فاكتبوه} على أن يكتبه كاتب غير المتداينين لأنّه الغالب، ولتعقيبه بقوله: وليكتب بينكم كاتب بالعدل، فإنّه كالبيان لكيفية فاكتبوه، على أنّ كتابة المتعاقدين إن كانا يحسنانها تؤخذ بلحن الخطاب أو فحواه.
ولذلك كانت الآية حجة عند جمهور العلماء لصحة الاحتجاج بالخط، فإنّ استكتاب الكاتب إنّما ينفع بقراءة خطه. اهـ.

.قال الثعلبي:

{وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبُ بِالْعَدْلِ} وقرأ الحسن وليكتب بكسر اللام، وهذه اللام، لام الأمر ولا يؤمر بها غير الغائب، وهي إذا كانت مفردة فليس فيها إلاّ الحركة، فإذا كانت قبلها واو أو فاء أو ثم، فأكثر العرب على تسكينها طلبًا للخفّة ومنهم مَنْ يكسرها على الأصل. اهـ.

.قال الفخر:

ظاهر هذا الكلام نهى لكل من كان كاتبًا عن الامتناع عن الكتبة، وإيجاب الكتبة على كل من كان كاتبًا، وفيه وجوه:
الأول: أن هذا على سبيل الإرشاد إلى الأولى لا على سبيل الإيجاب، والمعنى أن الله تعالى لما علمه الكتبة، وشرّفه بمعرفة الأحكام الشرعية، فالأولى أن يكتب تحصيلًا لمهم أخيه المسلم شكرًا لتلك النعمة، وهو كقوله تعالى: {وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ الله إِلَيْكَ} [القصص: 77] فإنه ينتفع الناس بكتابته كما نفعه الله بتعليمها.
والقول الثاني: وهو قول الشعبي: أنه فرض كفاية، فإن لم يجد أحدًا يكتب إلا ذلك الواحد وجب الكتبة عليه، فإن وجد أقوامًا كان الواجب على واحد منهم أن يكتب.
والقول الثالث: أن هذا كان واجبًا على الكاتب، ثم نسخ بقوله تعالى: {وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ}.
والقول الرابع: أن متعلق الإيجاب هو أن يكتب كما علمه الله، يعني أن بتقدير أن يكتب فالواجب أن يكتب على ما علمه الله، وأن لا يخل بشرط من الشرائط، ولا يدرج فيه قيدًا يخل بمقصود الإنسان، وذلك لأنه لو كتبه من غير مراعاة هذه الشروط اختل مقصود الإنسان، وضاع ماله، فكأنه قيل له: إن كنت تكتب فاكتبه عن العدل، واعتبار كل الشرائط التي اعتبرها الله تعالى. اهـ.

.من أقوال المفسرين في قوله تعالى: {كَمَا عَلَّمَهُ الله}:

.قال الفخر:

قوله: {كَمَا عَلَّمَهُ الله} فيه احتمالان:
الأول: أن يكون متعلقًا بما قبله، ولا يأب كاتب عن الكتابة التي علمه الله إياها، ولا ينبغي أن يكتب غير الكتابة التي علمه الله إياها ثم قال بعد ذلك: فليكتب تلك الكتابة التي علمه الله إياها.
والاحتمال الثاني: أن يكون متعلقًا بما بعده، والتقدير: ولا يأب كاتب أن يكتب، وهاهنا تم الكلام، ثم قال بعده {كَمَا عَلَّمَهُ الله فَلْيَكْتُبْ} فيكون الأول أمرًا بالكتابة مطلقًا ثم أردفه بالأمر بالكتابة التي علمه الله إياها، والوجهان ذكرهما الزجاج. اهـ.

.قال ابن عاشور:

وقوله: {كما علمه الله} أي كتابة تشابه الذي علّمه الله أن يكتبها، والمراد بالمشابهة المطابقة لا المقاربة، فهي مثل قوله: {فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به} [البقرة: 137]، فالكاف في موضع المفعول المطلق لأنّها صفة لمصدر محذوف.
وما موصولة.
ومعنى ما علّمه الله أنّه يكتب ما يعتقده ولا يجحف أو يوارب، لأنّ الله ما علم إلاّ الحق وهو المستقرّ في فطرة الإنسان، وإنّما ينصرف الناس عنه بالهوى فيبدّلون ويغيّرون وليس ذلك التبديل بالذي علّمهم الله تعالى، وهذا يشير إليه قوله النبي صلى الله عليه وسلم: «واستفتتِ نفسَك وإن أفْتَاكَ الناس».
ويجوز أن تكون الكاف لمقابلة الشيء بمكافئه والعوضِ بمعوضه، أي أن يكتب كتابة تكافئ تعليم الله إياه الكتابة، بأن ينفع الناس بها شكرًا على تيسير الله له أسباب علمها، وإنّما يحصل هذا الشكر بأن يكتب ما فيه حفظ الحق ولا يقصر ولا يدلّس، وينشأ عن هذا المعنى من التشبيه معنى التعليل كما في قوله تعالى: {وأحسن كما أحسن الله إليك} [القصص: 77] وقوله: {واذكروه كما هداكم} [البقرة: 198].
والكاف على هذا إما نائبة عن المفعول المطلق أو صفة لمفعول به محذوف على تأويل مصدر فِعل أنْ يَكْتُب بالمكتوب، وما على هذا الوجه مصدرية، وعلى كلا الوجهين فهو متعلق بقوله: {أن يكتب}، وجوّز صاحب الكشاف تعليقه بقوله فليكتب فهو وجه في تفسير الآية. اهـ.

.من أقوال المفسرين في قوله تعالى: {وَلْيُمْلِلِ الذي عَلَيْهِ الحق}:

.قال ابن عاشور:

وقوله: {وليُملل الذي عليه الحق} أمَلّ وأمْلَى لغتان: فالأولى لغة أهل الحجاز وبني أسد، والثانية لغة تميم، وقد جاء القرآن بهما قال تعالى: {وليملل الذي عليه الحق} وقال: {فهي تملي عليه بكرة وأصيلا} [الفرقان: 5]، قالوا والأصل هو أمللّ ثم أبدلت اللاّم ياء لأنّها أخف؛ أي عكسَ ما فعلوا في قولهم تقضّي البازي إذْ أصله تَقَضض.
ومعنى اللفظين أن يلقي كلامًا على سامعه ليكتبه عنه، هكذا فسره في اللِّسَان والقاموس.
وهو مقصور في التفسير أحسب أنّه نشأ عن حصر نظرهم في هذه الآية الواردة في غرض الكتابة، وإلاّ فإن قوله تعالى في سورة الفرقان [5]: {فهي تملى عليه بكرة وأصيلا} تشهد بأنّ الإملاء والإملال يكونان لغرض الكتابة ولغرض الرواية والنقل كما في آية الفرقان، ولغرض الحفظ كما يقال مَلّ المؤدب على الصبي للحفظ، وهي طريقة تحفيظ العميان.
فتحرير العبارة أن يفسر هذان اللفظان بإلقاء كلامٍ ليُكتب عنه أو ليُروى أو ليُحفظ، والحق هنا ما حقَّ أي ثبت للدائن.
وفي هذا الأمر عبرة للشهود فإنّ منهم من يكتبون في شروط الحُبُس ونحوه ما لم يملله عليهم المشهود عليه إلاّ إذا كان قد فوّض إلى الشاهد الإحاطة بما فيه توثقه لحقّه أو أوقفه عليه قبل عقده على السدارة.
والضميران في قوله: {وليتق}، وقوله: {ولا يبخس منه} يحتمل أن يعودا إلى الذي عليه الحق لأنّه أقرب مذكور من الضميرين، أي لا يُنقصْ ربّ الدين شيئًا حينَ الإملاء، قاله سعيد بن جبير، وهو على هذا أمر للمدين بأن يقرّ بجميع الدين ولا يغبن الدائن.
وعندي أنّ هذا بعيد إذ لا فائدة بهذه الوصاية؛ فلو أخفى المدين شيئًا أو غبن لأنكر عليه ربُّ الديْن لأنّ الكتابة يحضرها كلاهما لقوله تعالى: {وليكتب بينكم}.
ويحتمل أن يعود الضميران إلى {كاتب} بقرينة أنّ هذا النهي أشدّ تعلّقًا بالكاتب؛ فإنّه الذي قد يغفل عن بعض ما وقع إملاؤه عليه.
والضمير في قوله: {منه} عائد إلى الحق وهو حق لكِلاَ المتداينين، فإذا بخس منه شيئًا أضرّ بأحدهما لا محالة، وهذا إيجاز بديع.
والبخْس فسره أهل اللغة بالنقص ويظهر أنّه أخصّ من النقص، فهو نقص بإخفاء.
وأقربُ الألفاظ إلى معناه الغبن، قال ابن العربي في الأحكام في سورة الأعراف: البخس في لسان العرب هو النقص بالتعْييب والتزهِيدِ، أو المخادعة عن القيمة، أو الاحتيال في التزيّد في الكيل أو النقصان منه أي عن غفلة من صاحب الحق، وهذا هو المناسب في معنى الآية لأنّ المراد النهي عن النقص من الحق عن غفلة من صاحبه، ولذلك نُهي الشاهد أو المدين أو الدائن، وسيجيء في سورة الأعراف عند قوله تعالى: {ولا تبخسوا الناس أشياءهم} [الأعراف: 85].
وقوله: {فإن كان عليه الحق سفيهًا أو ضعيفًا} السفيه هو مختلّ العقل، وتقدم بيانه عند قوله تعالى: {سيقول السفهاء من الناس} [البقرة: 142].
والضعيف الصغير، وقد تقدم عند قوله تعالى: {وله ذرية ضعفاء} [البقرة: 266].
والذي لا يستطيع أن يملّ هو العاجز كمن به بَكَم وعمًى وصمَمٌ جميعًا.
ووجه تأكيد الضمير المسْتتر في فعل يُملّ بالضمير البارز هو التمهيد لقوله: {فليملل} لئلا يتوهّم الناس أنّ عجزه يسقط عنه واجب الإشهاد عليه بما يستدينه، وكان الأولياء قبل الإسلام وفي صدره كبراء القرابة.
والولي من له ولاية على السفيه والضعيف ومن لا يستطيع أن يملّ كالأب والوصيّ وعرفاء القبيلة، وفي حديث وفد هوازن: قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لِيَرْفَعْ إلَيّ عُرفَاؤُكم أمْرُكم» وكان ذلك في صدر الإسلام وفي الحقوق القَبَلِيَّةِ. اهـ.